ماذا تعرّي الكوميديا: قبح الواقع التونسي أم ضيق أفق التعبير؟ (2)

هل عادت الصنصرة؟

 لا يمكن أن نستحضر كوميديا السنوات الأولى للثورة دون أن نأتي على ذكر برنامج الدمى الفكاهي "القلابس" الذي كان تبثه قناة نسمة وهو نسخة محدثة تتماشى مع تطور الحياة السياسية في تونس من برنامج مشابه تم إنتاجه قبل سنوات وكان يتناول فقط المجال الفني.

القلابس لم تدّخر نقدًا أو تهكمًا في حق أي سياسي سواء كان من الأحزاب الحاكمة أو من المعارضة أو المستقلين وكان من الشخصيات الرئيسية في البرنامج الباجي قائد السبسي الذي أسس في تلك الفترة حزب نداء تونس وترأس قبل عام الحكومة وبعد سنوات أصبح رئيسا للبلاد. كما كان من بين الدمى الرئيسية حمادي الجبالي رئيس الحكومة آنذاك والمنصف المرزوقي رئيس الجمهورية ومصطفى بن جعفر رئيس مجلس نواب الشعب وحمة الهمامي.

لكن البرنامج توقف في بداية 2013 بسبب ضغوطات على المنتج وعلى المؤدين للقلابس وتقييد لحريتهم في النقد، بحسب تلميح للمنتج الراحل اسكندر خليل عندما أعلن إيقاف التعامل مع القناة.

وفي محمل آخر هو الإذاعة كانت فقرة "سايس خوك" التي أذيعت منذ سنة 2009 على موجات راديو موزاييك من أشهر الفقرات الساخر وسطع نجم مقلد الأصوات فيها وسيم الحريصي الذي أصبح معروفًا باسم أحد الشخصيات التي يؤديها "ميغالو". وبعد الثورة استفادت هذه الفقرة كثيرًا بمناخ الانفتاح وحرية التعبير فانتقلت إلى النقد السياسي بأسلوبها الفكاهي.

نفس مناخ الانفتاح وحرية التعبير كان عاملًا أساسيًا عندما مازح وسيم الحريصي، في وصلة كوميدية قدمها خلال فعالية لجمع تبرعات للدولة سنة 2012، بعض السياسيين الحاضرين وعلى رأسهم سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والناطق الرسمي باسم الحكومة في ذلك الوقت وحمة الهمامي رئيس حزب العمال المعارض. وفي قالب كوميدي انتقد ميغالو عادة ديلو في تكذيب وإنكار كل ما ينسب إلى الحكومة ورفض حمة الهمامي لكل شيء وكل موقف كما تهكم على حمادي الجبالي رئيس الحكومة آنذاك بسبب لغته الفرنسية الرديئة.

لكن هذا الحال لم يدم، ففي 2014 سحبت إذاعة موزاييك إحدى حلقات "سايس خوك" بسبب اعتراض على انتقاد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وتم إيقاف ومقاضاة وسيم الحريصي ومقدم البرامج الشهير معز بن غربية بسبب إهانة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في 2015. وبعد مدة توقف البرنامج بعد أن استهلك كل مواضيعه وتراجعت شعبيته، لكن السبب الحقيقي لإيقافه على ما يبدو يتعلق باستقالة وسيم الحريصي من موازاييك.

 

ريشة رسام وتهكّم كوميدي

 الكاريكاتور بدوره أحد أعمدة الكوميديا التي تصب في خانة المقاومة الإبداعية لكن في تونس هذا الفن ليس رائجًا كالأعمال المسرحية والستاند أب، بل أقل إقبالًا عليه، فعدد فناني الكاريكاتور في تونس يكاد يعد على أصابع اليد.

أشهر فناني الكاريكاتور هو "زاد" (Z) صاحب مدونة "Debat Tunisie" الناشط منذ بدء حركة التدوين المقاوم افتراضًيا في تونس، إذ يعد من روادها من قبل ثورة 2011. وبمهارة وإبداع فريدين من نوعهما امتزجا بسعة اطلاع هامة على ما يدور في الساحة السياسية، يقدم "زاد" رؤية مميزة بريشة رسام وتهكم كاريكاتوري ونقد ناشط ووعي سياسي قلما نجدها مجتمعة عند شخص واحد.

يدوّن زاد بهوية مستعارة، وفضّل ترك هويته الحقيقية مجهولة لدى الجمهور، حتى بعد الثورة عكس العديد من المدونين المعارضين لبن علي. ولربما اختار زاد مواصلة الاختباء وراء هويته المستعارة، كي يبقى محافظًا على مساحة الإبداع التي خلقها لنفسه، وليضمن لريشته التحرك بين خطوط الكاريكاتور وألوانه وتفاصيل الحدث السياسي بكل حرية، فلا يردعه غضب حاكم ولا يرهبه تهديد أنصار حزب ما أو حنق متابعين.

أما لطفي بن ساسي الذي يمكن اعتباره أشهر فنان كاريكاتور في تونس، فرسومه التي ينشرها على صفحات جريدة "لابراس" الناطقة بالفرنسية تناولت على مرّ سنوات الواقع التونسي في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بنفس نقديّ قدمه بشكل بسيط وخفيف يلامس العيون ويخترقها نحو القلوب والعقول، وجعل القرّاء يتعلقون بـ"البكبوك" تلك الشخصيات الطريفة في رسومه الساخرة التي تعلق على الأحداث الآنية.

1 / 2

يوم 13 جانفي 2011، قبل يوم من هروب بن علي، اختارت نادية الخياري أن تنشر أول كاريكاتور لها عبر مدونتها التي أسمتها "  "Willis from Tunis لتعلّق على ما يحدث في تونس عبر شخصية القط "ويليس" ومنذ ذلك الحين عانقت شهرة واسعة داخل تونس وخارجها. جلبت نادية معها إلى عالم الكاريكاتور رهافة حس المرأة والفنانة فكان النجاح حليفها حيث تحصلت على العديد من الجوائز واختيرت سنة 2016 ضمن قائمة 100 امرأة مؤثرة حول العالم التي أنجزتها شبكة بي بي سي.
 

أسياد الكوميديا 

أما في المسرح فيعدّ لطفي العبدلي- الذي قدم مسرحية "Maide in Tunisia" وهي من نوع الـ"وان مان شو"- أحد أبرز الممثلين الذي طوّعوا الكوميديا لقراءة واقعنا السياسي والاجتماعي، وتقديمه لجمهوره على طبق يمتزج فيه الوعي بالروح المتمردة على التيار المحافظ، وبالجرأة في الطرح وفي اختيار المحتوى وفي أسلوب كتابة النص واللغة المستعملة، والتي اعتبرها البعض صادمة ومنتهكة لقواعد الحياء والأخلاقيات وخصوصية المجتمع التونسي.

وقدمت الممثلة وجيهة الجندوبي أيضًا مسرحيات كوميدية من نوع الـ"وان مان شو" انتقدت كلها الواقع التونسي. وكانت مسرحيتها "بيغ بوسا" أكثر أعمالها انتقادًا للسياسة وحساباتها والمخططات التي تحاك في الكواليس ووراء الأبواب المغلقة دون أن تهمل مسؤولية المواطن في تردي الأوضاع العامة في البلاد.

وقبل هؤلاء عرفت تونس فناني كوميديا أبدعوا في مقاومة الواقع بالفن من بينهم الفكاهي الراحل نصر الدين بن مختار الذي كان سيد الستاند أب والمسرحيات الكوميدية، ولم يدّخر نصًا أو سخرية في تعرية الواقع.

فيما حجز الفنان لمين النهدي، الملقب في تونس بـ"ملك الكوميديا"، مقعده في مصاف كبار الكوميديين في تونس منذ عقود بأسلوبه الفكاهي المميز والذي يجعل من تصرفات التونسي مادة طريفة للتندر المغلف بالنقد.

1 / 2

وتقدم السلسلات الفكاهية أو ما يعرف بـ"السيتكومات" مقاومة للواقع بأسلوب كوميدي خاص يختلف عن بقية أنواع الكوميديا، نظرًا لاختلاف جمهورها، إلى جانب أنها إصدارات موسمية ترتبط بشهر رمضان.

من آخر هذه الأعمال  سلسلة "كان يا ماكانش" لعبد الحميد بوشناق التي يحاكي نصها ماتعيشه تونس من تقلبات سياسية وتنقد بشكل مباشر حينًا وغير مباشر أحيانًا أخرى طبيعة المشهد السياسي في البلاد. وكانت سلسلة "الرئيس" التي بثت عام 2016، وهي من بطولة فتحي الهداوي ووجيهة الجندوبي وسوسن معالج، قد قدمت نقدًا لاذعًا للسياسة وكيف تسير الحياة اليومية وتدار الأوضاع وتحاك المؤامرات داخل قصر رئاسي. فيما تقدم بقية الأعمال الفكاهية الرمضانية تصورًا ناقدًا لظواهر وسلوكيات اجتماعية.

1 / 2

ويبقى الأمر اللافت في المشهد التونسي حاليًا هو تراجع زخم الكوميديا في محاكاة الواقع السياسي وتعرية قبحه، على عكس ما عرفته في بداية الثورة. كما أن هذا الفن ما يزال يعتمد نفس الأدوات والأساليب والخطاب وطريقة الطرح مع بعض الاستثناءات القليلة.

مقالات ذات صلة