ماذا تعرّي الكوميديا: قبح الواقع التونسي أم ضيق أفق التعبير؟ (1)

هذا المقال هو الجزء الأول من مقالين يتناولان تطوّر صناعة الكوميديا في تونس تاريخيًا كأداة للمقاومة الإبداعية.

يقال إن الكوميديا يتم اللجوء إليها كسلاح للتخفيف من وطأة الألم والمصيبة وتعطي للكارثة بعدا عبثيا علّ ذلك يساهم في تعزيز قدرة تحمل تلك المأساة وتقبلها. لكن ربما هي أيضا طريقة عكسية لنقول للقدر الذي يسخر منا إننا بدورنا قادرون على السخرية منك وهزيمتك بأسلوبك وسلاحك، وكي نواجه الحياة التي تتلاعب بنا لنرجمها ببعض الفكاهة والتهكم ونخضعها قسرًا لمنطقنا في تقبل أهوائها ومسارات رياحها التي تجري بما لا نشتهيه.

لم تخرج تونس على هذا المنطق وكانت الكوميديا أداة فنانيها إبداعية لمقاومة الظواهر الاجتماعية السلبية. كما عرّت الكوميديا فساد الطبقة السياسية وتفشي المحاصصة وخدمة الأجندات السياسية والحسابات الحزبية والشخصية الضيقة، إلى جانب التنكر لأهداف ثورة الياسمين وتوق الشعب إلى مناخ ديمقراطي وعدالة اجتماعية.

ويمكن أن نقسم تطور الكوميديا في تونس إلى ثلاث فترات كبرى انسجامًا مع المسار التاريخي والسياسي التي عرفته تونس خلال السنوات الأخيرة.

تعود الفترة الأولى إلى ما قبل الثورة التونسية، حيث كان النقد مسموحًا به طالما لم يقترب من أسوار السياسة المنيعة والمحرمة خاصة في ظل فترات اشتداد الاستبداد وتقييد الحريات. في تلك الفترة كان من يتجرأ على ارتكاب المحظور يجد عين الرقيب ومقص الصنصرة بالمرصاد له، فتحذف الأجزاء المتهمة بارتكاب فعل التطاول على السياسة، وقد تصل العقوبة حد منع العمل من الخروج إلى النور.

كانت حرية التعبير محدودة ومحصورة في مجالات معينة، وقد نجح بعض الفنانين في مغازلة الممنوع في بعض الأحيان من خلال تمرير بعض الرسائل المشفرة والتلميحات الهادفة.

مسرحية كلام الليل 4 كاملة

وتبقى واحدة من أدلّ الأمثلة على ذلك مسرحية "كلام الليل" بطولة توفيق الجبالي وكمال التواتي ورؤوف بن عمر، التي تم عرضها لأول مرة عام 1990، والتي تعتبر أيقونة الكوميديا الناقدة للوضع السياسي. وقبلها تعتبر مسرحية "عمار بو الزور"، التي عرضت في العام 1978 وكانت من بطولة عبد القادر مقداد وثلة من ممثلي مسرح قفصة، نموذجًا مشهورًا في تونس عن مقاومة الاضطهاد زمن الاستعمار بالمسرح الكوميدي.

مسرحية عَمَّار بالزُّور كاملة

حرية التعبير في خدمة الكوميديا

خلال ثورة الياسمين وفي سنواتها الأولى يمكن أن نقول إن هذه الفترة كانت العصر الذهبي للكوميديا الناقدة للواقع خاصة المشهد السياسي. فتحت أبواب حرية التعبير والفن على مصراعيها في جانفي 2011 مع سقوط نظام زين العابدين بن علي، الذي كان يكبّل الأقلام ويكتم الأصوات التواقة إلى التحليق في سماء الفن والإبداع.

انتعشت في تلك الفترة الكوميديا التي تحاكي الواقع خاصة ما بات يعرف بالكوميدي ستاند أب. كان هذا النوع من الأداء مألوفًا لدى التونسيين من قبل الثورة عبر شاشتي قناتي "حنبعل" و"نسمة" الخاصتين، ومع فنانين منهم سوسن معالج ولطفي بندقة، إلا أنه منذ العام 2011 ازدهر بشكل لافت وظهر فنانون جدد اختصوا فقط في الستاند أب. بعض هؤلاء كانوا من محترفي المسرح والبعض الآخر من خريجي معهد الفنون الدرامية، إضافة إلى هواة شقوا طريق النجاح والشهرة في هذا المضمار.

وكان لبرامج المنوعات الشهيرة الفضل في تقديم فناني الستاند آب للجمهور العريض خاصة برنامج "لاباس" والتي قدمت أسماء باتت معروفة من بينها العربي المازني وفيصل الحضيري وبسام الحمراوي وكريم الغربي.

1 / 6

أغلب مؤدي الستاند أب الذين ظهروا بعض الثورة، وبعد شهرتهم التلفزية، شعروا أن تجربتهم المهنية نضجت ولم تعد تليق بتقديم مجرد سكاتش بسيط في برنامج تلفزيّ، فأصبحوا ينتجون ويقدمون المسرحيات أمام جمهور يأتي بأعداد كبيرة لمشاهدتهم فقط لأنهم أسماء معروفة تضحكهم. ووراء هذا النجاح، أغلب المحتوى لم يكن يومًا ذا جودة قيّمة: فبعضه نصوص مكتوبة بأسلوب سطحي يعتمد الإضحاك السهل دون الولوج إلى عمق المعاني والتفكير، فيما بعضها الآخر مأخوذ من منشورات فيسبوكية مستهلكة.

وشيئًا فشيئًا تراجع زخم النقد الكوميدي للمشهد السياسي وأصبح الكوميدي ستاند أب خال من المحتوى السياسي مقارنة بالسنوات الأولى للثورة. يفسر هذا الأمر نوعًا ما برغبة منتجي المنوعات التلفزية في التركيز على الوظيفة الأولى لهذا النوع من البرامج وهي الترفيه، خاصة أن التونسيين ملّوا الحديث عن السياسة في كل المنابر والمناسبات، بعدما أصيبوا بما يشبه التخمة منها، لتناولها بنهم مفرط خلال السنوات الأولى من الثورة.

لكن هذا الأمر لم يجعل الكوميدي ستاند أب يتخلى عن نقد الواقع بأسلوب ساخر، فتناول المحتوى بعض مشاهد الحياة اليومية التونسية أو السلوكيات المجتمعية. لكن هذا التوجه كان سلاحًا ذو حدين، إذ أن النقد الذي لطالما كان أمرًا محمودًا وصحيًا في مجتمعات تتطلع إلى التطور، تحوّل إلى ممارسة مسمومة بسقوطه في فخ التنمر أو التحيّز ضد النساء والجهويات والتمييز العنصري والتحرش الجنسي والإيحاءات الجنسية المبتذلة والتلاعب بالكلمات، أو ما يعرف في اللهجة التونسية بـ"لغة الغشة" وغيرها من السلوكيات المستهجنة.

 

مقالات ذات صلة