منوعات
03.08.22

وحده الرأي الواعي غير المتلاعب به يبني غدًا أفضل

أنت لست عابر سبيل ينتظر الوقت المناسب ليعبر إلى المحطة التالية، بل أنت صاحب هذه الأرض. وأنت لست مجرد رقم في إحصائيات الجهات الرسمية، بل عنصرًا فاعلًا في المجتمع وفي رسم مستقبل البلاد، صوتك مسموع وقرارك ملكك وهو وحده ما يجعلك قادرًا على إحداث الفرق وتغيير المعادلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

إذا أردت يومًا أن تشتري غرضً--ا لمنزلك، فسوف تقوم بكل الخطوات اللازمة كي لا تتم مغالطتك والتلاعب بقرارك. تصور معي الآن. بدلًا من الغرض المنزلي يتعلق الأمر بتحديد مصيرك أنت وشعب كامل ومنه مستقبل الأجيال اللاحقة. ماذا تفضل هنا؟ بناء رأيك الشخصي بنفسك بما يناسبك ويناسب بلدك أم الانسياق وراء آراء الآخرين حتى وإن كانت ضد مصلحتك ومصلحة وطنك وشعبك؟

لا أعتقد أن الأمر يحتاج الكثير من التفكير. لا أحد يرضى أن يكون مجرد قطعة شطرنج يحركها آخرون كما يشاؤون، وكأن لا إرادة له ولا رأي يسمع ولا موقف يعتدّ به. لا أحد يرضى أن يكون مجرد جزء- غير مرئي تقريبًا- من قطيع يقاد إلى مصيره دون أن يصدح برأيه، فالسياق الذي تعيشه تونس وغيرها من دول المنطقة وقبلها أجزاء من العالم فرض قواعد جديدة للمشاركة في الشأن العام. لا انفراد بالرأي بعد اليوم، للجميع الحق في تكوين آرائهم وإسماع أصواتهم بكل حرية.

ويحتاج التونسيون- ربما أكثر من أي وقت مضى- أن يعوا جدية التهديدات التي تتربص بآرائهم إذا ما جعلوا أنفسهم هدفًا سهلًا للبروباغندا، فحملات الدعاية في كثير من الأوقات لا تخدم مصلحة الجمهور المستهدف، بل يخطط لها خدمة للجهة الواقفة وراءها وحماية لمصالحها. وتستحيل هذه الحملات خطرًا حقيقيًا بتداعيات كارثية يصعب تداركها أو إصلاح مخلفاتها.

ويرتبط الخطر بالمقاصد الخفية الكامنة وراء التأثير في الرأي، خاصة إذا كانت النوايا الخبيثة متغلغلة فيها. ويتضاعف الخطر أكثر عندما يعتمد أساليب غير بريئة بما فيها من تزييف للحقائق، ونشر للشائعات، وللأخبار المضللة والمغلوطة.

وفي هذه الممارسات الشيطانية تنتفي كل القواعد الأخلاقية والإنسانية والمنطقية، وتصبح كل الوسائل- مهما كانت ضارة وخطرة- مبررّة ومشرّعة لتحقيق أهداف الحملة الدعائية المرسومة مسبقًا.

واحدة من أكبر الأمثلة التاريخية على خطورة الدعاية وقدرتها على التلاعب بالرأي العام، ما أتاه النازيون من تأثير في العواطف وإثارة للأوهام والمخاوف لدى الألمان وغيرهم بتلاعبهم بالأفكار مستعملين المنشورات والصور والإعلام مسموع ومرئي. ولم تكن تداعيات الحرب النفسية، آنذاك، بأقل خطورة من الخسائر المادية والبشرية.

أما في تونس، ورغم ما تحقق من ديمقراطية مقارنة ببقية بلدان الربيع العربي، تبقى النتائج سلبية ولم ترتق بعد لتطلعات الشعب. ويلقي بعض التونسيين أحيانًا باللوم على أنفسهم -أو على مواطنين آخرين- في كل أزمة تمر بها البلاد خاصة إذا كانت ذات أبعاد سياسية، لأنهم يعتبرون أنفسهم -أو جزءًا من الشعب- سببًا في إفراز نخبة سياسية عاجزة عن إدارة شؤون البلاد وإنهاء أزماتها المتتالية. بل أكثر من ذلك، يعتبر هؤلاء أن بعض التونسيين -بسلوكياتهم غير الواعية والمفتقرة لأبسط المعارف المتعلقة بكيفية التأثير في الرأي العام- كانوا سببًا في صعود السياسيين الهواة والفاسدين واللاهثين وراء مصالحهم الشخصية والحزبية على حساب السياسيين الوطنيين والأكفاء.

لقد لقّنت السياسة للتونسيين دروسًا عديدة طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي وفي كل مرحلة من مراحله. لكن هل اتعظّوا فعلًا من التجارب الماضية؟ وهل تعلموا منها شيئًا؟ أحيانًا يبدو التونسيون وكأنهم يتداركون أخطاءهم شيئًا فشيئًا. لكن الأمر في حقيقته يبدو أحيانًا عكس ذلك، حيث إن التدارك المزعوم للأخطاء ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة التأثر المبني على العواطف دون الاعتماد على ركائز صلبة تصقل من العقلانية بشكل فردي يراعي الاحتياجات وأخطاء الماضي.

حاليًا، كما في العديد من المناسبات السابقة، تتأثر فئات من التونسيين بالدعايات السياسية التي وظفت قدرات وسائل التواصل الاجتماعي، فكان التأثّر ومن ورائه بناء الرأي في الكثير من الأحيان قائمًا على مجرد صورة، أو منشور سطحي، أو إشاعة، أو خبرًا مضللًا، دون أن يلجأ المتلقي إلى أبجديات رد الفعل الدنيا والتي تحمله إلى التثبت من مدى صحة محتوى البروباغندا أو مصداقية مصدره وأهدافه.

الآن، وفي خضم الأزمات التي تغرق فيها البلاد على الجميع أن يعي أهمية بناء الرأي والموقف بطريقة فردية وعميقة وعقلانية بعيدًا عن العواطف، والتأثر بالأشخاص أو بالمنشورات الموجّهة على وسائل التواصل الاجتماعي أو بحملات الدعاية. هذا الوعي وحده يمكن أن يكون سلاحًا لتجنب التعرض للتلاعب من أي كان خاصة من خلال استعمال الأخبار الزائفة والمغلوطة، أو غيرها من الأدوات والوسائل الساعية إلى التأثير في الرأي العام بطرق باطلة لغايات لا تخدم الصالح العام. وفي ظلّ واقع أصبح فيه الاتصال بالإنترنت متاحًا بشكل أكبر وأسهل من السابق إلى جانب انتشار وتطور وسائل الإعلام وزيادة الوعي بأهمية حرية التعبير، من غير المنطقي أن تقرر أطراف ما أو شخص ما مصير شعب كامل بما يحدد ملامح مستقبل الأجيال اللاحقة.

لقد أتاحت لنا التكنولوجيا الحديثة والتغيرات في المشهدين السياسي والإعلامي، إمكانية الاطلاع على مختلف وجهات النظر ومقارعة الأفكار المعروضة ومقارنة التصريحات والمواقف، والاطلاع على الوثائق الضرورية لمعرفة أكثر تفاصيل وحيثيات حول الموضوع أو المجال الذي نسعى لتكوين رأي بشأنه. وبالتالي، من دون اعتماد هذه الخطوات واتباع هذا المسار من المستحيل أن تكون آرائنا نابعة من ذواتنا، مترجمة لإراداتنا، مدفوعة باحتياجاتنا وقادرة على تحقيق تطلعاتنا، بل ستكون مجرد نسخة مشوّهة من رأي شخص آخر صيغ بطريقة مشبوهة وراء الأبواب المغلقة وفي ظروف مسمومة غاياتها بعيدة كل البعد عن تحقيق الخير لشعب عانى ويلات ممارسات مشابهة على مرّ تاريخه.

أنت لست عابر سبيل ينتظر الوقت المناسب ليعبر إلى المحطة التالية، بل أنت صاحب هذه الأرض. وأنت لست مجرد رقم في إحصائيات الجهات الرسمية، بل عنصرًا فاعلًا في المجتمع وفي رسم مستقبل البلاد، صوتك مسموع وقرارك ملكك وهو وحده ما يجعلك قادرًا على إحداث الفرق وتغيير المعادلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فلا تكن تابعًا أو عبدًا لإرادة غيرك وتوجيهاته! ابنِ رأيك بنفسك، فأنت سيد موقفك وفكرتك! أنت مواطن حر في زمن تحتاج فيه تونس إلى كلمة الحق والإرادة الحرة والواعية. فوحده الرأي الواعي غير المتلاعب به قادر على بناء غدٍ أفضل.

مقالات ذات صلة