ثقافة
14.03.22

شوفلي حل: السلسلة التي لا تموت

لعل المتعارف عليه أن ما يمثل ثقافة وهوية بلد معين يكمن أساسًا في اللغة، والعادات الاجتماعية التقليدية، والأطباق التقليدية واللباس المميز لتلك الثقافة أو ذلك البلد. لعل أبرز ما يمثل ثقافة التونسيين هو اطباقهم الشهيرة مثل: الكسكسي، والكفتاجي، والبريك ومعالمها السياحية كمسرح الجم، وحنايا زغوان ولباسها التقليدي، الذي تتنوع خصوصيته من ولاية إلى أخرى.

لكن التونسيين، ومنذ ما يقارب الستة عشر عاماً، نجحوا في إدخال عنصر فرجوي هزلي ضمن ثقافتهم وهويتهم، ألا وهو السلسلة الهزلية "شوفلي حل"، أو كما يحبذ البعض مناداتها بــ"السبوعي" نسبة للشخصية التي تعتبر روح هذا العمل ومحوره. عرضت السلسلة لأول مرة في شهر رمضان 2005، من تأليف حاتم بالحاج، وإخراج صلاح الدين الصيد.

تصوّر السلسلة محيطاً اجتماعياً في "بالاص مادام جنات"، أي عمارة السيدة جنات أين يباشر الطبيب النفسي سليمان الأبيض عمله. لسليمان أخ أصغر يدعي السبوعي، وهو شخص ساذج بريء أحياناً، غبي ومدلل من قبل والدته فضيلة، ومتزوج من "زينب" وهو أب لطفلتين.

عند خروجك من شقة سليمان الأبيض تصادفك شقة "مادام جنات" مالكة العمارة و"عرّافة"، أو كما ينعتها بعض ساكني عمارتها "المشعوذة " و"السحارة". تمثل جنات الجانب المظلم للفكر الاجتماعي التونسي، الذي يؤمن بالشعوذة وقدرة ورق اللعب على رؤية المستقبل والمعجزات الكامنة في كمية البن الراسبة في آخر الفنجان بعد، شرب القهوة، أو "التنوة" وقدرتها على التنبؤ بالمستقبل وما يحمله. تشارك جنات شقتها مع "عزة"، وهي فتاة يتيمة اتخذتها جنات ابنة وخادمة ومعينة ونديمة تشاركها حياتها في ذلك البالاص، وتمثل عزة الحب الأول والأخير للسبوعي.

كما تصوّر السلسلة العلاقات الاجتماعية المتنوعة بين شخصيات العمل التي تمثّل نموذج لبعض العلاقات في المجتمع التونسي، منها علاقة سليمان وأخيه السبوعي، وهي العلاقة التقليدية بين الأخ الأكبر المسؤول المسيطر، الذي يحاول ممارسة سلطة أبوية على أشقائه. أما السبوعي فهو الأخ الأصغر الساذج والبريء المدلل من قبل أمه فضيلة، التي تحول بينه وبين تحوله إلى شخص يتحمل مسؤولية أفعاله الساذجة. إلا أن شخصية السبوعي تبقى أكثر الشخصيات المقربة من قلب المواطن التونسي، نظراً لطيبتها وعفويتها، وخلوها من الأحقاد والمشاعر الإنسانية الشريرة.

ورغم حب التونسيين لشخصيات الأم الحنون، والحماة المخضرمة، والجدة الحنون، إلا أنها شخصية كذلك تعشق السيطرة، وأبدعت في خلق عداوة بين أبنائها، حيث تبالغ في تدليل ابنها الأصغر حتى جعلته إنسان فاقد للمسؤولية، وبين الأخ الأكبر الذي يتحمل أعباء العائلة وسذاجة أخيه.

يصور المسلسل كذلك علاقة زينب بسليمان، وهي علاقة زوجية تقليدية بين الزوجة الغيورة على زوجها من المريضات اللواتي يباشرن العلاج النفسي لديه، وبين زوج -ورغم العلم والثقافة والتفتّح- إلا أنه زوج تقليدي جداً داخل جدران منزله.

كذلك نجد علاقة السبوعي بفتاة أحلامه عزة، التي كبرت أمامه في الشقة المجاورة. يصف البعض من التونسيين علاقة عزة والسبوعي بالعلاقة السامة، لأن السبوعي كان دائماً تحت سيطرة وغطرسة عزة، التي تستغل دهاءها لاستغلال السبوعي عاطفياً، وجعله دائماً خاضعاً لرغباتها. إذ أن علاقة عزة والسبوعي مجرد علاقة بين فتاة تريد الهروب من تعسّف جنات المرأة الرأسمالية المتوحشة البخيلة أو "المشحاحة"، التي تكتفي بإنفاق القليل والقليل رغم ثرائها الفاحش، وبين شاب ساذج يريد الارتباط هرباً من تعسف أخيه القاسي معه، والذي يرفض صداقته، ويكتفي بمعاملته بجحود. أما جنات وسليمان فيمثلان صراعاً طريفاً ومضحكاً بين منطق العلم والطب وخرافة الشعوذة.

مسلسل شوفلي حل - الموسم 2008 - الحلقة الثانية

يعتقد القارئ أن العمل عمل درامي، لكن في الواقع كل هذه الشخصيات والصراعات تدور في كنف الهزل والفكاهة. فنجحت عائلة سليمان في الولوج لبيوت جميع التونسيين، الذين أصبحوا يرون هذه العائلة كجزء من بيوتهم. تعتبر السلسلة من المقدسات لدى التونسيين، فقد نجح التونسيون في صنع مقدّس جديد أصبح يمثل فرصة لاجتماع أفراد العائلة أمام التلفزيون، وكأنها تخلق نوع من الترابط الاجتماعي الأسري، حيث تعتبر أداة لم شمل، فبمجرد قدوم الساعة الثامنة مساءً نجد جميع أفراد العائلة مجتمعين لمشاهدة السلسلة، وبمجرد انتهائها ينتهي هذا التجمع العائلي ويعود كل لعزلته، حتى المغتربين من التونسيين ما فتؤوا يعبرون عن مدى أهمية مشاهدة السلسلة على منصة اليوتيوب، لتقليل إحساسهم بالغربة والوحدة، وجعلهم كأنهم بين أفراد عائلتهم.

في الواقع أن سلسلة "شوفلي حل" كانت قد نجحت في التحول من سلسلة هزلية رمضانية إلى دعامة ومظهر من مظاهر الثقافة التونسية، إذ أن السلسلة تُعرَض بصفة متواصلة على القنوات الفضائية الوطنية دون انقطاع. تقابل أي محاولة من مؤسسة الإذاعة والتلفزة لعرض عمل أو سلسلة أخرى بالرفض الشديد من قبل التونسيين، الذين يهاجمون صفحة الفايسبوك الخاصة بالتلفزة للضغط عليهم للإبقاء على عرض السلسلة.

لا تزال السلسلة رفيق المواطن التونسي الأول والأخير، خاصة في المناسبات والأعياد والاحتفالات فالعمل لامس كل جوانب الحياة حتى أصبحت التلفزة الوطنية تختار حلقات العمل حسب نوع المناسبة أو الاحتفال...فمؤخراً عرضت حلقة "عيد الحب" في 14 فيفري، وفي يوم عيد الأضحى تعرض حلقة عيد الأضحى في مساء ذلك اليوم. وفي شهر رمضان تختار التلفزة الوطنية ثلاثة عشرة حلقة تعرض دون انقطاع، وتصوّر هذه الحلقات الأجواء الرمضانية في العمل لتلائم الأجواء الرمضانية التي يعيشها.

في شهر رمضان -ورغم اجتهاد قنوات التلفزة الخاصة في عرض مسلسلات درامية وكوميدية جديدة برؤى عصرية وأفكار مختلفة- إلا أن بعد مرور ستة عشر عاماً على عرض أول حلقة منها، ما زالت تمثل المادة الإعلامية الأولى في شهر رمضان.

السلسلة كذلك كانت فرصة للتعرف علي الحي التونسي، الراقي "حي النصر" إذا أن أغلب التونسيين لم يعرفوا بوجود هكذا حي حتى أصبح الحي في سنة 2008 وجهة وموضوع اكتشاف لبعض التونسيين القادمين من جهات داخلية للدراسة أو العمل.

كذلك فإن السلسلة ساهمت في التعريف بالطب والعلاج النفسي، الذي كان في تلك الفترة محل استغراب واستنكار وسخرية من قبل التونسيين الذين يرونه بمثابة اختصاص طبي دخيل. شوفلي حل وإن ساهم في المتعة الفرجوية التونسيين، إلا أنه مثل دخلاً مادياً مهماً أيضاً للتلفزة التونسية، التي استفادت من إقبال التونسيين على مشاهدة العمل ونجحت في جذب المستثمرين.

مقالات ذات صلة