منوعات
04.07.22

معرض بسماء مفتوحة: غرافيتي التمرّد والجرأة يليق بتونس

الغرافيتي أحد أصناف فنون الشارع يجمع في تركيبته خليطًا مثيرًا للاهتمام من التناقضات، فهو فوضى أفكار وألوان تخرج منها رؤية إبداعية وجمالية واضحة.

فنانو الغرافيتي غير مرئيين في العادة يرسمون لوحاتهم الجدارية في غفلة من أعين الجميع في أغلب الأوقات، لكن رسوماتهم تكون مرئية أكثر من أي لوحات فنية أخرى تعرض في صالات ضيقة وفي إطار فعاليات منظمة. هي أيضًا رسومات لها طابع مستفز بشكل غريب تفرض ألوانها على الجدران دون مقدمات أو تراخيص وأذون، لكنها تعبر عن مشاغل الجميع دون استثناء.

ما يجعل الجداريات قريبة من المواطن هو قدرتها المذهلة عن التعبير عما يعصف بذهنه دون أن يتكلم، فقط هناك في لحظة ما ومكان ما شاب اعتراه جنون الفن فصور ببخاخاته معاناة الناس ومشاكلهم اليومية، والأحداث السياسية التي تدور حولهم وتؤثر بشكل ما على وضعيتهم الاجتماعية.

وبشكل آلي نجد أنفسنا بالحديث عن الغرافيتي نقارنه مع الفن التشكيلي. ما يميّز الغرافيتي هو قدرته المذهلة على افتكاك مساحات واسعة واحتلال الجدران بكل جرأة، فهو على عكس الفن التشكيلي لم يرض نفسه سجين معارض محدودة مكانيًا أو زمانيًا مهما اتسعت مساحاتها أو غيرها من قاعات العرض التقليدية.

ولأن الغرافيتي على اعتبار أنه كغيره من فنون الشارع وفيّ جدًا لخاصيته الأبرز- وهي شعبيته- أباح نفسه لكل طبقات المجتمع دون قيد أو شرط. وأبى أن يختزل الفن لطبقة معينة تقبل على مشاهدة لوحات فنية معروضة في أماكن عرض مخصصة، كل تفصيل منمق فيها يشي بأنها حكر على فئة معينة وليست في متناول أيّ كان.

1 / 2

تضفي صالات العرض الراقية بديكوراتها وبروتوكولاتها هالة من الفخامة على اللوحات الفنية المعروضة وتزيدها أسعارها هيبة على هيبتها. وهذا مفهوم، فالفن والإبداع لا يقدران بثمن، وما مزادات الأعمال الفنية سوى مناسبة للتأكيد على أن الموهبة خصلة نادرة تستحق أن يحتفى بها بطريقة مميزة وخاصة.

لكن الغرافيتي بطبيعته المتمردة على كل ما هو متعارف عليه كسر كل تلك القواعد والبروتوكولات، وأعاد بكل قوة وثقة حق المواطن في فضاءاته العامة على اختلاف أنواعها، فصارت ملكه من جديد بعد أن كان استغلاله لها مرتبطا بإرادة السلطة، فاستحال الغرافيتي معرضًا بلا حدود وبسماء مفتوحة.

قبل ثورة 2011، كانت رسوم الغرافيتي محتشمة إلى أن شهدت انفجارها الإبداعي يوم 14 جانفي من نفس السنة عندما خطّ تونسيون تاريخ ثورتهم على جدران البلاد. حينها كتبت عبارات عن الحرية والديمقراطية حملت بين أحرفها أحلام شعب بغد أفضل في بلد فعلًا يطيب فيه العيش بكرامة.

في تلك الفترة كان شارع الحبيب بورقيبة في أجمل حلة ويعيش حرفيًا أجواء الفرح كما لم يعشها من قبل مع كل الفوضى التي اجتاحته. جمال الشارع آنذاك يعود إلى عبارات من قبيل "ارحل" و"تونس حرة" و "لا خوف بعد اليوم" و"الشعب حر"، بعضها كتب بالعربية، والبعض الآخر بالفرنسية أو الإنقليزية.

1 / 2

وعلى مر السنوات، منذ ذلك الحين، ترجمت الجدرايات مطالب المتظاهرين والمعتصمين مثل المطالبة بمجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد، أو ما يجول في فكر شباب تونس وما ينشغلون به مثل: القانون 52 المجرم لاستهلاك القنب الهندي والذي بموجبه يقبع العديد من شباب تونس في السجون وعلى أعتابها انتهت أحلامهم وتشوه مستقبلهم.

الغرافيتي عبرت أيضًا عن رفض العنف المسلط على النساء واضطهادهن بتعلة العادات والتقاليد والدين. كما جرمت الغرافيتي التعامل الأمني العنيف مع المظاهرات وتجاوزات رجال الشرطة والتعذيب في مراكز الإيقاف، وغيرها من هذه الممارسات التي راح ضحيتها كثيرون من بينهم محب النادي الإفريقي عمر العبيدي الذي مات غرقًا أثناء مطاردة بوليسية.

كما تتهكم الغرافيتي على بعض الوجوه السياسية البارزة لانتقاد توجهاتهم وخياراتهم، لكنها أيضًا خلّدت ذكرى رموز سياسية أخرى مثل: شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا غدرًا في 2013 على يد إرهابيين.

وثق هذا الفن الثائر الأحداث الهامة التي عاشتها البلاد، وعبّر عن مشاغل الشباب وبقية فئات المجتمع، واستحال مرآة ترى فيها البلاد روعة إنجازاتها وجمال جوانبها المضيئة، دون أن تغفل عن بشاعة واقعها المتردي وجوانبها المظلمة.

هكذا لعبت الجداريات دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل المكان والفضاء العام، ليعكس هذا للفن روح المكان ويشابه أصحابه وآراءهم وتطلعاتهم ومخاوفهم وأحلامهم.

أهمية الغرافيتي لدى الشباب وحجم المكانة التي استطاع أن يحجزها لنفسه صورها المخرج لسعد الوسلاتي في مسلسله- الحائز على العديد من الجوائز والنقد الإيجابي- "حرقة: الضفة الأخرى"، عندما اختار أن يكون أحد شخصياته ربيع ليكون فنان غرافتي والذي جسد دوره قصي العلاقي.

قدّم الوسلاتي ربيع ابن الحي الشعبي المهمش الواقع على تخوم العاصمة الذي يصوّر على الجدران معاناته مع التنمر وحلمه في الهجرة إلى أوروبا، هربًا من واقعه المؤلم وأملًا في فرصة عيش أفضل، وهو حلم يجمع تحت مظلته قطاعًا واسعًا من أبناء هذا البلد المثقل بأزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

1 / 2

وبرزت في تونس العديد من الأسماء من فناني الغرافيتي الذين بنوا لأنفسهم شهرة فريدة من نوعها في هذا العالم المصنوع من خليط سحري من الفن والجنون والتمرد والشغف. من بين هذه الأسماء مجموعة "زواولة" التي حوكمت ذات رسومات بتهمة "الكتابة على عقارات عمومية دون رخصة" بسبب عبارة "الشعب يريد حق الفقراء". وكانت رسومات زواولة تظهر تحد واضح للسلطة وانتقادًا لاذعًا لكل النظام في السنوات الأولى إبان الثورة التونسية فندّدوا بالفقر والقمع.

وهناك أسماء تونسية عديدة أخرى مثل "أهل الكهف" و"موفما" و"ستريت مان" و"مولوتوف" و" ST4" ومالك عمروس وهالة كرموس وغيرهم كثر. لكن يبقى "إل سيد" التونسي- الفرنسي أكثرهم شهرة وهو الذي نشر بألوانه على جدران مدن تونس والعالم قيم السلام والتسامح.

أيقنت حكومات ما بعد الثورة أنه لا مجال لها للهرب من سلطة الغرافيتي. وإدراكًا لأهميته وقفت وراء عدد من المشاريع من ذلك رسومات الغرافيتي التي زينت جدران حي جبل الجلود الشعبي خلال تظاهرة فنية- تستقطب فناني غرافيتي تونسيين وأجانب- وتنظم سنويًا بمناسبة إحياء ذكرى اغتيال شكري بلعيد.

مشاريع مماثلة أخرى حوّلت عددًا من جدران المدن العتيقة والمعالم الأثرية مثلًا في جربة وقابس وتونس العاصمة والمهدية وسوسة والمنستير والقيروان إلى لوحات فنية جميلة مما حولها إلى أحد عناصر الجذب السياحي لهذه المناطق.

ولأن الغرافيتي قلب كل معادلات الفنون الشبيهة له وقدّم نفسه استثناء وفنًا شعبيًا بروح شبابية متمرّدة على السائد والمتاح وتوّاقة لتحويل القبح إلى جمال وكاسر لكل القيود، فماذا أفضل منه ليليق بالثورة التونسية ولتليق به!

1 / 2

مقالات ذات صلة