الهوس بالهجرة: التفكير في الشباب مع الشباب (1)

حين يصبح الهوس بالهجرة عدوى النخب الأكاديمية و زواج المصلحة " الحَرقة الناعمة"


  • كيف يجب أن نفكّر مع الشباب في الشباب؟

من منّا لم يلمح شابًا عشرينيًا أو ثلاثينيًّا يتجوّل مع امرأة  خمسينيّة بل ستينية أحيانًا؟ المشهد متكرّر، وليس مقطعًا من عمل سينمائيّ أو مسرحية أو لوحة تشكيلية وانّما هو الواقع كما هو متشكّل في يوميات الشباب التونسي التي صارت مبنيّة على سؤال واحد: «كيف أهرب...؟»

 بينما يـ"حرق" البعض عبر البحر، يحرق آخرون عبر الزواج بأجنبيّة، "زواج المصلحة" والتّعريف الدّقيق لهذه «الفصيلة» من الزواج: «الحرقة الناعمة مع زوجة أجنبية.» التفكير الماكيافيلي القائم على تبرير الوسيلة بالغاية. إنّ النّوع الثاني من الحرقة (الزّواج) هو نجاة مؤقت من الموت غرقًا في البحر أو العقوبة السّجنية ولكنه «مصيدة» للشاب التونسي . إن فكّر هذا الشاب بالتراجع أو اكتشفت الأجنبيّة نواياه بعد الزواج، سقط في «وابل» من العقوبات وتتحوّل حياته إلى جحيم فوق الأرض.

سألت مرّة شابّا كان يحتسي قهوته مع أجنبيّة تفوقه سنًّا حتّى أنّك تخالها جدته: تكذب عليها أو على نفسك...؟ فأجابني: «يوم واحد تعرّفي فيه على حياتي اليوميّة وعائلتي وأعدك أنّك لن تعيدي طرح هذا السؤال...» ومع ذلك لم أتوقّف عن مناقشته. كان لي من الحجج ما يسكته أحيانًا وكان له من الأسباب ما يعجّزني عن الردّ غالبًا.

إنّ الحرقة عن طريق زواج المصلحة ليس أقلّ خطورة من الحرقة عبر البحر. فكلاهما موت. أن يموت جسد الإنسان أو تموت روحه، لا فرق بين الميتتين.

لفتتني سائحة فرنسية وهي تتحّدّث بسخرية عن معاكسات الشباب التونسي لها في الشارع وتعبر عن امتعاضها الشديد. كانت تتوقّع مني مساندتها وأنا أكشف لها عن هويّتي كصحفية. كنت أصغي إلى قصصها وطرائفها مع معاكسيها وكان كل قصّة ترويها وثيقة تؤرّخ لدرجة الحاجة والخصاصة التي جعلت من الشّاب يتلذّذ بتعذيب نفسه وإذلالها أمام أجنبيّة وخلنا أنّى عهد الاستعمار والعبوديّة قد ولّيا.

معاكسة أجنبيّة وملاحقتها صورة كاركاتوريّة أو كوميديا ساخرة ومؤلمة جدا عن درجة الفقر التي بلغها الشباب وتعلّقه بالهجرة. لقد انتهى الاستعمار فقط شكلًا في منتصف الخمسينات . وهو متواصل بأكثر الأساليب خطورة. إنّه الاستعمار الفكري والأيديولوجي والثقافي والاقتصادي والسياسي. أردت بشدّة أن أسأل هذه السائحة التي أعلم ألاّ دخل لها فيما سأقوله، ولكن أردت أن أسألها  بعد أن استفزتني سخريتها من بعض الشباب الذي تجرأ على معاكستها: أيهما أكثر خطورة: معاكسة أو تغريب مواطن فوق أرضه؟

كان من المتوقّع أن تحمل الثورة حلولًا للشباب وتنتشلهم من «موجودهم" وتحلق بهم إلى "منشودهم" من خلال إنجاح الانتقال الديمقراطي. ولكن ما حصل وما يحصل هو تعميق الأزمة: فماذا حين تصبح الحرقة مصيدة حتى النخب والهجرة طموح الأطباء مثلًا؟

  • ينتقد البعض الأطباء الذين يهاجرون بعد أن تعلّموا في تونس. ولكن مالذي يدفع بهم إلى الهجرة؟

يقول مصدرنا: «في المرحلة الأولى من مجابهة الكوفيد 19، استقطبت وزارة الصحة العديد من الأطباء الشبان للعمل والمساهمة في محاربة الوباء. وقد لبى هؤلاء النداء وتجندوا لخدمة البلاد. ولكن بعد انتهاء مهمتهم تمّ الاستغناء عنهم دون أي حقوق.»

أمام النكران والجحود ، كيف تكون ردّة فعل الأدمغة غير الهجرة الى بلد يحترم كفاءاتهم العلمية ويقدرها معنويًا وماديًا.ومن لا يقدر على الهجرة المنظمة ينضم إلى الهجرة غير الشرعية، أو يبحث عن زوجة تفوقه سنًّا حتى لو كانت من عمر والدته أو جدّته.

 لم يعد حكرًا على الشباب غير المتعلم الذي يئس من التشغيل في تونس، وإنما شمل الموضوع النخبة من الأكاديميين وفي مختلف الاختصاصات. وهم يعلمون أنّه لن تفتح أمامهم أبواب الجنة، ولكن يؤمنون بأنّ الغربة في بلد ما أفضل من الإحساس بالغربة على أرض الوطن. فالإهانة والاحتقار من الغريب أفضل من إهانة في وطنه. وهو ما يردّد غالبية التونسيين الذي يرمون بأنفسهم للمجهول باحثين عن فرصة أخرى لحياة كريمة.

نقلًا عن وكالة تونس افريقيا للأنباء: «بلغ عدد التونسيين الواصلين إلى إيطاليا خلال شهري جويلية وأوت الماضيين ما عدده 7745 شخصًا، وتم منع 8939 وفقدان 49 وقدر عدد القصر منهم بـ 1775 فيما تؤشر أرقام نفس الفترة من سنة 2021 إلى وصول 8079 شخصًا ومنع 8575 وكان عدد القصر 1307 والمفقودين 134

والأمر لا يتوقف على التونسيين  فقط، فنستحضر مقطعًا من السّلسلة الهزلية «عايزة أتجوز» ففي حوار بين هند صبري وابنة عمّتها تقول هذه الأخيرة أنّ والدتها أرسلتها من أمريكا الى مصر لتجد عريسًا. تسخر منها هند وتخبرها أن «السوق واقفة في مصر.» فتجيبها ابنة العم: «ولكن أنا عندي الجنسية الأمريكية ومام قالتلي أنو بالجنسية كل شباب مصر راح يحبوا يتزوجوا منك.» وفي مشهد موال لهذا المشهد نرى صفوفًا من العرسان متراصين أمام بيت هند صبري راغبين في الزواج من ابنة عمها المصرية المقيمة في أمريكا.

يكفي أن تضع «هجرة غير شرعيّة» على محرّك غوغل ولاحظ النتائج الصادمة من كثرة المواضيع المطروحة حول هجرة الشباب التّونسي، بل الشباب العربي وطموح الاستقرار في الشمال.

  • تنويه: سوف ينشر الجزء الثاني من التقرير الأسبوع المقبل.

مقالات ذات صلة