الهوس بالهجرة: التفكير في الشباب مع الشباب (2)

حين يصبح الهوس بالهجرة عدوى النخب الأكاديمية و زواج المصلحة " الحَرقة الناعمة"


هل نطرح السؤال المناسب؟
كان من المتوقع أن تكون الثورة والمستقبل الموعود عاملًا لتقليص هاجس الهجرة والحرقة وغيرها من محاولات الاستقرار في بلد آخر ولكن الغريب أنّ الثورة التي قادها الشباب تخذل الشباب وهي أوّل خيبة أمل يعيشها الشباب بعد الانتظارات الكبيرة المعلقة على الثورة، فما هي الأسباب التي فاقمت من هاجس الهجرة أو الحرقة بعد الثورة؟

لقد صار من الضروري طرح القضية بأكثر تمعن وتشخيص للواقع وبعمق يخوّل لنا فهم الظاهرة. فلم تعد مجرّد «حرقة» بل صارت رغبة جماعية في الهجرة من البلاد.

وهم اللامركزية؟
أعتقد أن كلّ الإشكالات تدور حول مصطلح محوري " اللامركزية" وكيفية تحقيقها. في الواقع الكثير من المخططات والاستراتيجيات والمداخلات والمشاريع التي تأتي تحت عنوان دحض المركزية وتثبيت على اللاّمركزية ولكنّ النتائج عكسية تماما فقد تعمّقت المركزية. رغم أنّه من بعد الثورة أصبح لكلّ جهة صوتها داخل مجلس النواب المنحلّ أو من المفروض أنه صوتها. ولكن غياب التفكير الاستراتيجي والتصور العامّ للمشروع المناسب يجعل من امكانات الإصلاح صعبة جدًا. فقد استغنى هؤلاء النواب عن دورهم وصاروا فقط جزء من «المسرحيّة» الديمقراطيّة.

هل من نوايا حقيقيّة للقضاء على المركزيّة؟
إنّ تواصل النزوح إلى العاصمة والتخلي عن العمل الفلاحي و الاهتمام بالأراضي الفلاحية مؤشر واضح أنه لا وجود لأيّة نية في القضاء على المركزية. فتونس بلد فلاحي في أًصله، ومنذ سنوات تخلى صغار الفلاحين عن أراضيهم التي كانت مصدر ثروات مهمة وأيضًا مصدر تشغيل هام. وهذا التخلي جراء حرمان هذه الطبقة من الفلاحين من التسهيلات.

ربّما يسأل الآن أحدكم ما دخل الفلاحة في الحرقة أو هاجس الهجرة إجمالًا؟ حين يحصل التوازن في الاهتمام بالقطاعات خاصة القطاع الذي هو خصوصيّة الجهات التونسية وتتضخم الاستثمارات فيه يقلّ النزوح والاكتظاظ في العاصمة ويعود الشباب الى الفلاحة والأرض التي هجرها. وبكثرة الإنتاج يصبح مشروعًا التفكير في التصنيع أي تصنيع ثروات الأرض. الغريب أنّنا بلغنا مرحلة حتى خريجي الجامعات من اختصاص الفلاحة لا يهتمّون بهذا القطاع الذي قد ينقذ البلاد من إشكالات كبيرة حول تحقيق الاكتفاء الذاتي في المستقبل.

 كلّما ابتعد الفلاحون عن أراضيهم وخيروا العاصمة، كلما تعمقت المركزية. فلو كانت هناك نية حقيقية للقضاء على المركزية لكانت الانطلاقة الحقيقية ومن الجهات وأريافها وإصلاح القطاع الفلاحي والتشجيع على الاستثمار في هذا القطاع.

لكن في تونس يُفهم فقط مشروع  القضاء على المركزية، أو لنقل يتعمّد فهمه فقط ،حينما يتعلق الأمر بنشاط ثقافي، ويتوقّف الأمر عند تنظيم فروع من الأنشطة في الجهات، وهذا أن تمّ تنظيم التصور على أكمل وجه طبعًا.

ماذا لو نعيد طرح سؤال الحرقة وهاجس الهجرة بعقلانية ونعطي الأولويّة للتفكير فيه للمختصين في العلوم من علم النفس الى علم الاجتماع إلى علوم الاتصال وعلوم الاقتصاد؟

هل نحن في موقع تقييم أو حكم على سلوك هؤلاء الشّاب؟ أعتقد لا. كان هاجس الهجرة غير المشروعة أو غير النّظامية مقتصرًا على فئة معيّنة من الشباب المفقّر والمهمّش وفي غالبيّته لا يقدر على الاندماج في المجتمع، إما لأنه غير متعلّم أو سجناء سابقين، أو لغيرها من الأسباب. بعد الثورة اتسع الجمهور المستهدف بالحرقة ليشمل النخب الأكاديميّة حتى من قطاعات من المفروض تحظى بتوظيف في تونس ولم تعد الحرقة مقتصرة على الشباب وإنما صرنا نرى أطفالا ونساء في بواخر الموت في السنوات الأخيرة.

والظاهرة في تزايد..بل إلى حدّ اللحظة ونحن نكتب هذه الورقة نقرأ عن محاولات الحرقة بين الناجحة والفاشلة والظاهرة أيضًا في تزايد... لهذا نحن في موقع عدم الحكم أو التقييم وإنّما لا بد من التفكير ومن خطّة أو استراتيجيا يقودها هذه المرة مختصين في علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم الإتّصال بعيدا عن مصطلحات «الهيئات» و«اللجان» التي خرّبت كل محاولات الإصلاح. لا يوجد سلوك بشري لا حلّ له أو لا امكانات لأي حل.

هل بسطت مذيع أو مذيعة الأخبار سبب الحرقة بعمق وهي تتداول الخبر؟ أو هل قرأنا مقالا علميّا عن القضية بعيدًا على التحريض على معاقبة هؤلاء الشباب؟ أو بعيدًا عن نظرة الشفقة، أو هل شاهدنا منبرًا إعلاميًا يقيم حوارًا مع شباب حول الحرقة بأسلوب بعيدًا عن الإثارة وإسالة الدّموع والتضليل الوجداني؟

لا يحتاج منا هؤلاء الشباب شفقة أو تأسفًا وإنما حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا لإنقاذ ما تبقى، وليس بكاء وعويلًا على عدد الموتى غرقا. فكلّ نشراتنا أو مقالاتنا لا تطرح القضيّة إلا من هذه الزاوية المثيرة للعواطف بطريقة ركيكة.

إنّ الحل في التفكير مع الشباب حول قضايا الشباب وليس في تحويل هؤلاء الشباب إلى صور مثيرة للشفقة على شاشات التلفزيون بل كيف نحاور أفكارهم بطرق حديثة وبوسائل يفهم لغتها هؤلاء الشباب وليس أيضًا بمنطق المؤتمرات و«فرحة شباب تونس» وإنما بأساليب حداثية غير متعالية على أفكارهم أو عابثة بقيمتها. نحن في حاجة للاصغاء للشباب المسكون بهاجس الهجرة حتى لا نراهم مستقبلا رقما ضمن قائمة الغرقى في البحر أو سجينا في الغربة بعد شكاية تقدمت بها زوجته الأجنبية.

مقالات ذات صلة