فصل السلطات بتونس: مكسب بصدد الاندثار

"ليس هناك طغيان أفظع من الــطـغـيـان الذي يمارس في ظل القوانين وتحت ألوان العدالة" كانت هذه كلمات المفكر الفرنسي مونتسكيو الذي أسّس نظرية "فصل السلطات" سنة 1748 في كتابه "روح القوانين"، وتطورت هذه النظرية لتصبح مبدأ أساسيًا في الديمقراطية العصرية وأحد أهم أعمدة الأنظمة الديمقراطية في عالمنا اليوم. ويعتبر العديد من التونسيين أن التكريس الفعلي لهذا المبدأ للمرة الأولى في تاريخ تونس ما بعد الاستقلال كان أحد أهمّ مكاسب ثورة 14 جانفي 2022، ولكن بين تجميد وحلّ البرلمان والإقالة الأخيرة لـ 57 قاضي في يوم واحد، يبدو أنّ هذا المكسب في طور الاندثار.

الاندثار التدريجي لاستقلالية السلطة التشريعية:
استقبل عدد مهمّ من التونسيين، حتى لا نقول أغلبية ساحقة، قرار تجميد البرلمان التونسي السنة الفارطة بالاحتفال والفرحة بعد أيام من الاحتجاج ضد تواصل الفقر والبطالة والتهميش في معظم الجهات والغلاء المعيشي بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة، وضد كمية التهريج والعنف التي تحدث في المجلس وتبثّ مباشرة على التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي. وقد أعلن رئيس الجمهورية هذا التجميد في إطار حالة استثنائية بناء على مقتضيات الفصل 80 من الدستور في 25 جويلية 2021.

 ولكن في 22 سبتمبر 2021، بسبب الاحتجاجات المستمرة لمساندي الأحزاب الحاكمة بعد شهرين من تعليق مجلس النواب، تمّ إصدار أمر رئاسي ضمن حزمة من الإجراءات الاستثنائية لمعالجة عدم الاستقرار في البلاد، يواصل فيه الرئيس التونسي قيس سعيّد تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب، وأسند لنفسه فيه الاختصاص التشريعي مباشرة بواسطة مراسيم، دون أي إمكانية للطعن فيها. وتضمّن هذا الأمر كذلك رفع الحصانة عن النواب، مع إضافة إجراء جديد متمثل في إيقاف صرف أجور رئيس المجلس وأعضائه.

 ثمّ عقد أكثر من 120 نائبًا من البرلمان المجمّد اجتماعًا افتراضيًا الأربعاء 30 مارس 2022 في تحدّي للتدابير الاستثنائية وأقروا، بعد تصويت 116 منهم بنعم، قانونًا يلغي هذه التدابير في محاولة لتحقيق ما اعتبروه "العودة إلى الشرعية التي انقلب عليها الرئيس قيس سعيّد". فما كان من سعيّد إلّا إعلان حل البرلمان "حفاظًا على الدولة ومؤسساتها" واستنادًا إلى الفصل 72 من الدستور، معتبرًا أن اجتماع البرلمان وما صدر عنه "محاولة انقلابية فاشلة"، بحسب كلمة متلفزة له. وبهذا أصبحت السلطتان التنفيذية والتشريعية في تونس بيد شخص واحد.

 الهجوم المباشر على استقلالية السلطة القضائية:
بعد جملة من الانتقادات التي وجهها إليه وتجميد المنح المالية المسندة لأعضائه في جانفي 2022، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد، في كلمة من مقر وزارة الداخلية يوم السبت 5 فيفري 2022، عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وسخّر قوات وزارة الداخلية لإغلاق المجلس يوم الإثنين الموالي ومنع الموظفين من الدخول إليه. ثمّ أصدر سعيّد لاحقًا مرسومًا رسميا بتاريخ 12 فيفري يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس جديد يدعى "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء".

 أدعوكم الآن إلى قراءة ما يلي:
"لرئيس الجمهورية، في صورة التأكّد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حُسن سيره"
.

هي كلمات الفصل الأوّل من المرسوم عدد 35 المؤرّخ في 1 جوان 2022، الذي يتعلّق بإتمام المرسوم عدد 11 السابق ذكره، يخوّل الرئيس التونسي فيها لنفسه بإقالة القضاة. في نفس اليوم، قرر قيس سعيّد عزل 57 قاضيًا من بينهم يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل، بدعوى "الحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى الدولة"، وتمثّلت تهمهم الرئيسية في الفساد والتستر على متهمين في قضايا إرهاب. أمّا الآن فيجب على كلّ قاضٍ توخي الحذر وأخذ رغبات الرئيس بعين الاعتبار، قبل إصدار أي حكم خشية إقالته دون المثول أمام محكمة، أو الحصول على فرصة للدفاع عن نفسه. وهنا نلاحظ القضاء الكليّ على استقلالية القضاء التونسي.

أكّد سعيّد على أنّ هدفه الرئيسي تطهير القضاء بقوله: "لقد أعطيت الفرصة تلو الفرصة وقد تم التحذير أثر التحذير حتى يطهر القضاء نفسه، ولا يمكن أن نطهر البلاد من الفساد وتجاوز القانون إلا بتطهير كامل للقضاء". ولكن، إن كان مبتغانا الرئيسي تحقيق العدالة والاستقرار في البلاد، هل أنّ جعلها دولة الرجل الواحد كما كانت في زمن بن علي وبورقيبة الحلّ الأمثل، خاصة بعد أن شهدنا عواقب تلك الحلقتين من مسلسل تاريخ تونس المعاصر؟ وإن نجحت تجربة الرئيس المثيرة للاهتمام في المستقبل، هل هذا يعني أنّ النظام الديمقراطي غير ناجع وغير مفيد في السياق التونسي؟

 

مقالات ذات صلة